العربية الطبية لسان بلا كلام

نستطيع أن نميز في كل لغة بين نسق هو اللسان وإجراء هو الكلام، بين اللغة باعتبارها موجودا بالقوة واللغة باعتبارها موجودا بالفعل، ولقد وجدنا في الأدبيات اللسانية، أنه لا فصل لنسق عن إجراء إلا على سبيل التسويغ، بمعنى أنه لا وجود للغةٍ إلا وهي تقوم وبالضرورة على ثنائية اللسان والكلام، على ما بين هذين من علاقة جدلية، بحيث لا كلام إلا وهو استثمار أو تحقيق فعلي للسان، ولا لسان إلا وهو حاصل التوافق بصدد ما أتى عليه فعل الكلام. وإذا أخذنا بهذا المبدإ، ونحن نتحدث الآن عن إمكانية وجود عربية طبية فصيحة، فكيف يصدق هذا على ما بين أيدينا من هذه اللغة اليوم؟

إن ما بين أيدينا من ذلك، في المغرب العربي على الأقل، لا يرقى إلى مستوى اللغة بالمعنى العلمي الصريح للغة، فعلى مستوى الإجراء الذي يُفترَض أن يكون في علاقة جدلية مع نسقٍ ما، ستجد أنه ليس هناك إلا اللغة العامية، يُتوسل بها مع العامة لتحصيل المنفعة المادية، أو اللغة الأجنبية (الفرنسية) يُتوسل بها مع الخاصة وبعض العامة لتحصيل المنفعتين المادية والمعرفية. بمعنى أن الحديث في الطب وحوله لا يكون بعربية طبية فصيحة.

ومع ذلك كثر الحديث عن المعرَّبات والمترجَمات والمعاجم الطبية الخاصة والمعممة، ليس الحديث فقط، بل ويشهد الواقع أيضا على ما بُذل ويُبذل لأجل العربية الطبية، من طرف مجمعات ومعاهد وهيئات حكومية وأفراد متخصصين وغير متخصصين. ولكن ما قيمة ذلك كله، إذا بقي فقط في حدود المقرر والمبرمج والمتفق عليه؟ ما قيمة معجم طبي لا يختبره إجراء ولا يرسخه استعمال؟ إنه لا قيمة لمعجم في ذاته، ولا لقاعدة في ذاتها، ولا قيمة بالتالي للسانٍ في ذاته. إن أي لغة في حدود اللسان ليست إلا إمكانية للغة، فقد تكون وقد لا تكون. لذا فإن ما يُعوَّل عليه في حد اللغة طبيةً كانت أو غير طبية، ليس اللسان وحده، بل الكلام أيضا، باعتباره التحقيق الفعلي لما يكون من اللسان في حيز الإمكان.

وإذا تأملانا واقع اللغة الطبية الفصيحة عندنا، سنجد أنفسنا أمام لسان بلا كلام، أمام معاجم طبية ومقررات وبرامج مرغوب عنها مرغوب في غيرها، وكأن الأمر يتعلق بلغة ميتة هذا لسانها ما زال قائما، ولكن ليس هنا من يتكلم به. ذلك ربما لأن هذه اللغة نشأت خارج السياق المعهود لنشأة اللغات، أو لأن العمل عليها أهمل مبدأ التلازم الجدلي الذي بين اللسان والكلام. إنها لغة لا يُبحث بها في طب، ولا يُدرس بها طب، حتى نقول إنها حاصل الكلام ومؤطره في الطب وحوله. إنها لغة مصنوعة وهذه حقيقتها.

إن عربيتنا الطبية الفصيحة لغة مختبرٍ أتت إلى العالم كما يأتيه أطفال الأنابيب، فهي لم تنشأ في رحم الاستعمال والتداول في الطب وشؤونه، إنما هي حاصل مواضعات خارجْسياقية، أو ترجمات آلية، تعتمد سياقات صناعية، أو لا تعتمد أيَّ سياق. والسياق الصناعي سياق معملي لا عملي، تنتج اللغة من خلاله كما المواد والمنتجات الصناعية، وشتان بين المنتوج الثقافي والمنتوج الصناعي. وهيهات أن تكون لغةٌ ما لغة حقيقية، ما لم تنشأ عن استعمالٍ فعلي، وما لم يرسخها تداولٌ نفعي.

ليس المطلوب إذن أن تكون لدينا عربية طبية فحسب، بل المطلوب أن تكون لدينا الرغبة في تداول الفكر الطبي باللغة العربية، ولعل هذا لا يتطلب دروسا في الطب واللغة، بقدر ما يتطلب دروسا في المواطنة والتربية على الهوية. فليس كافيا إعداد الأنساق والأنظمة، بما فيها الأنساق اللغوية، بل يجب قبل ذلك أو بموازاته توفير الشروط اللازمة لإعمال هذه الأنساق، ثم الترغيب فيها والتربية على الالتزام بها والمشاركة في إعدادها، لا أن نصنعها ثم نسقطها إسقاطا. ذلك لأن اللغة فضلا عن كل تعريف، ليست مجرد أشكال فارغة أو رموز مستقلة، إن اللغة ظاهرة نفسية مفعمة بالحياة، لأنها مجال للتعالق الجدلي بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي. لذا يجب أن لا نهمل معطيات السياق النفسي إزاء قضيتنا هذه. إن الميولات والرغبات والدوافع والاستعدادات، كلها عوامل نفسية، تقوم بدور كبير في حسم العلاقة مع اللغة بشكل عام. وبهذا الاعتبار، كيف يكون موقفنا من لغة ما تعودنا عليها في بحث ولا ألفناها في درس، لغة تبدو غريبةً غرابةَ الأنساق الأجنبية، تعترضنا بعدما شِخْنا وتعودنا على البحث والدراسة بغيرها؟

(عبد السلام إسماعيلي علوي، 2018/ب، ص66…)