كتاب حدود الفهم

2

حدود الفهم.

دراسات سميولسانية في تدبير الاختلاف.

(منشورات الدار التونسية للكتاب، تونس، 2018)

 

مقمة الكتاب:

يجب أن نعترف باختلافنا قبل كل شيء، وعلينا أن نُقر بأن الاختلاف أصلٌ في كل شيء. وبعد ذلك، يمكن أن ننطلق واثقين مطمئنين للبحث عن سُبلٍ وإمكانياتٍ للتفاعل الموحِّد أو للتفاعل المنظِّم على الأقل. وسنكون حينها على بينة من أن ما قد نحققه من اتفاق أو ائتلاف، وما قد ينتج عن ذلك من تناغم أو انسجام، لا يعدو كونَه مجردَ حالةٍ عرضية ووقتية، حالة يمكن أن تؤجل الاختلاف إلى حين، ولكن لا يمكن أن تعطله إلى الأبد.

إن الاتفاق والائتلاف، وغيره مما قد يوهم بنوعٍ من التماهي أو عدم الاختلاف، ليس أكثر من كونه مجرد حالة عرضية، تمليها دواع نفعية، وتؤطرها شروط وسياقات اجتماعية. إن أي اتفاق أو ائتلاف إذا حصل، فإنما يحصل لجلب المنفعة وفقا لشروط وسياقات، وكي يبقى الاتفاق ويستمر الائتلاف يجب أن تُحفظ المنفعة وأن تراعى الشروط وتراعى السياقات.

ينبغي أن نشير فقط إلى أن المنفعة المقصودة هنا ليست المنفعة المادية فحسب، بل اللامادية أيضا، وأن المقصود بالشروط ليس الموضوعية فحسب، بل الذاتية أيضا. وأن المقصود بالسياقات ليس الواقعية فحسب، بل المفترضة أيضا. وبهذا يكون مدار الحديث هنا بالضبط، على الحدث الاجتماعي، بل على الحدث التواصلي باعتباره الاستراتيجية الوحيدة لتدبير الاختلاف، والحل الأكيد من أجل كل اتفاق وكل ائتلاف.

من الاختلاف ننطلق إذن وإليه نعود. ننطلق منه إلى ما يمثل اتفاقا أو ائتلافا، إلى ما يمثل تناغما أو انسجاما، وذلك فقط بموجب استراتيجيات تواصلية، يمكن أن تكون ناجحة. قلنا “يمكن” لأن نجاح هذه الاستراتيجية لا يكون مضمونا بشكل قطعي. فدائما تبقى الاحتمالات قائمة لتكريس الاختلاف أو العودة إليه.

إن التواصل محاولة على أرضية الاختلاف، فإما أن تفارق هذه الأرضية، وإما أن تبقى فيها. وذلك مردود بالأساس إلى ما يتحقق بالتواصل من تفاهم. أما التفاهم فإنه لا يتحقق في كليته وتمامه بشكل مطلق، فإذا تحقق الآن، فإنه لا يتحقق دوما. وإذا تحقق مع أحدهم، فإنه لا تتحقق مع الجميع بالضرورة. إن درجات التفاهم متعددة ومتفاوتة، وذلك تبعاً لمدى استعدادات المتفاعلين، وبالنظر إلى مدى كفاءاتهم وكفايات أنساقهم.

إن الفهم أو التفاهم يعني التواطؤ على تأجيل الاختلاف في لحظةٍ ما، لأجل وحدةٍ ما أو انتماءٍ ما، ولأجل منفعةٍ ما بالضرورة. إن التفاهم لا يعني الوقوف على الحقيقة التي لا اختلاف بصددها، بقدر ما يعني الاكتفاء ببدائل عنها يمكن أن تؤجل الاختلاف ولو إلى حين. وتلك البدائل هي ما يراد عندنا بالمعاني. أما المعاني فإنها ليست حقائق ولا يمكن أن تكون حقائق، ذلك فقط لأنها مجرد معطيات قصدية سياقية نسقية.

إن المطرد في ما يحصل به التفاهم هو أن يتم التوافق على واحدٍ من المعاني المحتملة الممكنة، وقد يحصل التفاهم، لكن من غير اطراد، فقط بالتوافق على ما يطابق الدلالة، باعتبارها تثبيتا سابقا لاحتمالات ممكنة. وبتعبير آخر، إنه غالباً ما يُحتكم في التفاهم إلى توافقٍ آني مُحْدَث، ويكون حاصل الفهم هو المعاني بما هي معطيات سياقية. ويمكن أن يُحتكم فيه إلى توافقٍ سابق، ويكون حاصل الفهم حينها هو الدلالات بماهي معطيات وضعية.

يمكن أن يتم التفاهم بالوقوف على المعاني أو الدلالات إذن، وأما أن يتم التفاهم بالوقوف على الحقيقة، فهذا ما يُشاع، ولكنه في نظرنا مستبعد لاعتبارات كثيرة. إن القول بقيام الفهم على إدراك الحقيقة مجرد وهمٍ، ذلك لأن الحقيقة لا يمكن أن تستوعبها أنساقٌ وضعية، مادامت كليةً ومتعالية، وما دامت الأنساق لا تامة ولا كافية. إن الحقيقة لا يدركها تدليلٌ ولا استدلال، ما دامت واحدة وثابتة، وما دام التفاهم فعلا متجددا وفي سيرورة تدافعٍ لا متناهية. إن الحقيقة لا يمكن أن تكون هي حاصل التفاهم أبدا، وأما القول بخلاف هذا الحكم فغلطٌ أو مغالطةٌ، ويُرَدُّ بالأساس إلى الالتباس المنهجي الحاصل بين الثالوث المعرفي المتمثل في “الحقيقة” و”الدلالة” و”المعنى”.

تلكم إذن، هي الدعاوى التي نحاجج لأجلها في هذا الكتاب، ولقد حاولنا فعل ذلك في عشرة فصول متتالية، بخلفية معرفية سميولسانية. أما الباعث الذي دفعنا إلى البحث في هذا الموضوع فذو بعدين، بعدٌ معرفي وآخر منهجي، فنحن من جهة، نهدف في أفق تدبير الاختلاف، إلى الإسهام في تثبيت ثقافة الاختلاف عامة، والاختلاف المعرفي بصفة خاصة. ونهدف من جهة ثانية، في أفق تكريس التعاون، إلى تثبيت ثقافة الاعتراف بالآخر من أجل التكامل عامة، والتكامل المنهجي بصفة خاصة.

فبالنظر إلى الهدف المنهجي، إننا ندعو بإلحاح إلى تكامل العلوم، من أجل تصورات نظرية أكفى وأوضح، ومن أجل أحكام علمية آكدُ وأصوب. ولقد اتخذنا من السميولسانيات، نموذجا لتجسيد الكفاية النظرية والمنهجية الممكن تحصيلها بتكامل العلوم، باعتبارها محاولةً علمية لتجاوز الحدود بين اللسانيات والسميائيات. وعلى هذا كان مدار الفصل الأول.

وبالنظر إلى الهدف المعرفي، وفي سياق سعينا إلى تثبيت ثقافة الاختلاف، فقد جعلنا مدار الفصول الثلاثة الموالية، على دفع الالتباس المنهجي والمعرفي، الذي يثيره اشتباه الحقيقة بالدلالات والمعاني، أو يثيره اشتباه الدلالات بالمعاني. فتسنى لنا الوقوف على بعض مؤكدات الاختلاف، وبعض مبررات تدبيره.

هذا، ولقد التمسنا لتصورنا بصدد الثلاثي الملتبس بعضَ التزكية، في نصوص سميولسانية، وجدناها تؤكد أو توضح ما نذهب إليه، فعملنا على ترجمتها في الفصول الثالثة الأخرى الموالية. وبعد ذلك ارتأينا في الفصول الثلاثة الباقية، تعزيز التصور بنماذج تمثيلة، عن  بعض أساليب التفاعل على أرضية الاختلاف، فكان مدارها على الإيحاء والإنجاز والحجاج، حيث تُتخذ أساليب التدليل والاستدلال استراتيجيةً لتجاوز الاختلاف أو تدبيره.