اللغة العربية وقضية الكفاية

لقد حوصرت اللغة العربية ومازالت تحاصر بمجموعة أحكام إسقاطية تطعن في كفايتها. أحكام لا يزكيها علم ولا يؤكدها واقع. إن العربية لغة سياقية، ما كانت لأدبٍ فقط، ولا تحجرت لدين أو فلسفة، ولا تخصصت لعلم بعينه، بل هي لكل ذلك وأكثر، بحكم غناها وطواعيتها، وهذا ثابت بالتجربة والتاريخ شاهد على ذلك. ثم إن العربية لغة اشتقاقية بامتياز وهذه خاصية لها دون مجمل اللغات الطبيعية، وهذا من شأنه أن يؤهلها كي تكون من الرائدات إنتاجيا وإبداعيا. أضف إلى ما تقبله وحداتها من نحت ونقل وتعديل وغيره، وما تقبله هي من توليد، وما يوفره نظامها من إمكانيات للترجمة والتعريب. إن لغةً بهذه المرونة والطواعية جديرة بمكانة تليق بها بين اللغات الرائدة، جدارة يحكم بها العلم وتؤكدها التجارب.

وهكذا فإن المشكل إذن ليس مشكل كفاية، مادام لا يعزى إلى عدم قابلية أو طواعية اللغة، فالعربية لا تمتنع ولا تتمنع عن أي محولة جادة للتطوير، إنما المشكل في تقصير المسؤول بصدد تفعيل هذه القابلية واستثمار هذه الإمكانية، والتقصير هنا بمعنيين: إما عدم المحاولة أصلا، أو المحاولة مع تفويت الإصابة. وبذلك اتخذ شكلين مختلفين، بحسب ما يُرتاد من مجالات معرفية، بحيث يتجلى في ما يلاحظ من تفريط أو إفراط في التعامل مع قضية المصطلح مثلا.

أما التفريط، فيمكن أن نسجله على كثيرين من رواد ما يعرف بالعلوم الدقيقة، فهؤلاء سواء كانوا منتجين أو مستهلكين، لم يكلف أغلبهم نفسه عناء النظر في إمكانية صلاحية العربية لتداول هذه العلوم وحتى الإنتاج بها. فهم يستهلكون أو يثنون عن وعي أو من غير وعي، على ما أشيع ووصل إليهم من أن العربية ليست لغة علم. وهم يغضون الطرف عن البينة التي بين أيديهم، وهي بينة تفند هذا الزعم وهذه الإشاعة، ومفادها أنه ليس كل ما يُتداول بالفرنسية من علم أصليا لها، وليس كل ما يتداول بالإنجليزية خاصا بها.

ليس المطلوب هنا التخلي عن لغة من اللغات، وإنما المطلوب، بل الواجب هو عدم التخلي عن الهويات. فلو تخلى كل ذي لغة عن لغته لمثل هذه الأسباب، لما كان الزمان ليبقي على غير العربية لغةً، بالنظر إلى تاريخها المجيد.

وأما الإفراط، فإنه يُرد مثلا إلى ما يلاحظ من تهافت في التعامل مع القضية المعهودة، في معظم مجالات العلوم الإنسانية، تهافت تحكمه الارتجالية والعفوية وأحادية الرأي، يُعوزه التخطيط والمنهج والالتزام الجماعي، تهافت حاصله تضخم في المصطلحات وتضارب في المفاهيم، هذا في أحسن الأحوال، وفي أسوئها، إضاعة للجهد والوقت، ومعه إضاعة للعلم واللغة.

وإذا كان عيب التفريط في التعامل مع قضية المصطلح، يكمن في ما وراءه من خضوع واستسلام وحتى استلاب، فإن عيب الإفراط في ذلك يكمن ليس في المحاولة، بل في إتيانها على غير هدى، وما يترتب عنه من تضييع للفرص على اللغة وعلى المعولين عليها. ويمكن أن يكون حكم هذه المحاولة كحكم من اجتهد، فإن أصاب فله ولغيره، وإن لم يصب فإما أن يكون ذلك عن غير قصد، فيرده بعد علمه بفساده. أو يكون عن قصد، وهذا أخطر من عدم المحاولة.

(عبد السلام إسماعيلي علوي، 2018/ب، ص76…)