الأسطـورة تكســير

لن نأخذ الأسطورة هنا بالمفهوم التقليدي الذي يربطها بعلم الأساطير، بل بالمفهوم الذي يربطها بالتدليل والأنساق التواصلية، نأخذها باعتبارها رسالة أو صيغة تدليلية خاصة، تنبني على مستويين سميائيين أولهما يكرس النسق وثانيهما يعمل تكسيره. وإذا كان النسق هو اللسان مثلا، فإن ثمة مستويين للتدليل إذن، الأول يشتغل في حدود العلامة اللسانية التي تقوم على العلاقة النسقية الوضعية المعهودة بين الدال والمدلول، والثاني يتجاوز هذه العلاقة. في المستوى الأول نكون أمام ما يسمى “النسق الموضوع” أو “اللغة الموضوع”، وهي اللغة التي تمسك بها الأسطورة  في مستوى ثانٍ، لتبني على أنقاضها نسقها الخاص، والمسمى “مِتَانسق” أو “متالغة”، وهذه لغة ثانية نتكلمها من خلالها اللغة الأولى.

إننا لمتابعة نسق الأسطورة لن نبقى في حدود نظام اللغة الموضوع، ولا في حدود تفاصيل العلامات اللسانية المعهودة. إننا ننطلق من هذه العلامات كمعطى أولي تتسرب الأسطورة داخله، ننطلق منها باعتبارها بعدا أخيرا في النسق اللساني يمثل البعد الأول في النسق الأسطوري، وبذلك ستكون العلامة اللسانية بدالها ومدلولها عبارة عن دال فقط في العلامة الأسطورية.

إن الدال في الأسطورة يرد بشكل ملتبس، فهو مضمون وشكل، مليء وفارغ في الآن نفسه. فباعتباره مضمون سيفرض قراءةً ما سابقة، ذلك لأنه في هذا المستوى الأول يمكنه أن يكتفي بذاته، ما لم تمسك به الأسطورة وتعمل على إفراغه، ذلك أن المعنى فيه سبق أن اكتمل. ثم إنه بعد هذا سيُفرغ ليصبح شكلا، ونصبح أمام تراجع غير عادي من المضمون إلى الشكل، من العلامة اللسانية إلى الدال الأسطوري. إن العلامة اللسانية تحوي نسقا من القيم، تعمل الأسطورة على إبعاده لتشكيل الدال الأسطوري، ثم إن هذا الوضع الجديد يستدعي محتويات ومضامين أخرى بديلة، هي ما سيمثل بُعد الأسطورة الثاني، أي المدلول الأسطوري، وبه تكتمل العلامة الأسطورية.

ورغم هذا، فإن الشكل لا يلغي المضمون، بل يقتصر على إفقاره، يفقده قيمته ويبقيه على قيد الحياة، هذه الحياة التي تعد احتياطيا تتغذى الأسطورة عليه، ويمكن أن تستحضره في أية لحظة، إذ ينبغي للشكل أن يبقى قادرا على استدعاء جذوره من هذا المضمون الأول، كما أن له أن يختبئ فيه دوما. ثم إن لعبة الاختباء هذه هي ما يحدد الأسطورة أساسا، ويجعلها تبدو بريئة وطبيعية. فليس ثمة أي مضمون قادر على مقاومة تهديدات الأسطورة، إنها قادرة على أن تطور نفسها انطلاقا من أي مضمون معطى، فلا شيء في واقع التدليل قادر على الانفلات من الغزو الأسطوري، ولا شيء في واقع التدليل قادر على أن يقدم الحقيقة العارية.

(للاطلاع عليه بإحالاته يُرجع إلى كتاب السميولسانيات وفلسفة اللغة، دار كنوز، 2017)

أضف تعليق